المادة    
فهذا الكون له مغزى عظيم وحكمة عظيمة، والوجود الإنساني هو أعظم ما في هذا الكون؛ فلا بد أن له حكمة عظيمة جداً، ومن هذه الحكمة لا يليق بالخالق العظيم المتصف بالجلال والعدل والخير والرحمة أن يدع هذا الخلق المكرم وهو الإنسان (( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ))[الإسراء:70], ولا أن يجعله من غير نور يهتدي ويقتدي به في ظلمات الحيرة.
  1. ثبوت نبوة آدم

    وقد لاحظنا وأثبتنا -والحمد الله- أن الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام كان نبياً مُكلَّماً يوحي إليه الله تبارك وتعالى، وخاطبه ربه عز وجل، ومِن بعده ظلت البشرية على هدى الوحي, وعلى هدى النور والخير حتى وقع فيهم الشرك.
  2. أول الرسل إلى البشرية

    في مرحلة سحيقة من التاريخ لم يدركها هؤلاء, افترضوا أنها مرحلة ما قبل التاريخ -أو يفترضوا ما شاءوا في مرحلة سحيقة من التاريخ القديم الثابت-, والذي تؤيده الشواهد يوماً بعد يوم من الأثريات والحفريات وغير ذلك؛ وُجدت أو جاءت ظاهرة النبوة لعلاج مشكلة الانحراف البشري؛ فكان أول الرسل كما هو ثابت في التاريخ الإسلامي بوضوح جداً في القرآن وفي السنة وفي اعتقاد المسلمين جميعاً، وكما يمكن أيضاً أن يكون ثابتاً -وإن لم يكن بتلك الميزة والقوة والظهور- في التوراة -الكتاب السابق- فنوح عليه السلام هو أول الرسل الذين أرسلهم الله تعالى، ومن ثَمّ فإنه يتصف أيضاً بأنه الأب الثاني للبشرية؛ إذ جاءت مرحلة ما بعد الطوفان، فكان من جاء من البشر من بعد هذه المرحلة هم من ذرية نوح عليه السلام.
  3. سنة الخلاف بين الأنبياء ومناوئيهم

    من هذه الحقيقة ثم ما تلاها من حقائق، يظهر أن الله تبارك وتعالى لم يدع البشرية على الإطلاق في يوم من الأيام بغير هدى وبغير نور: (( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ ))[فاطر:24]؛ لكن الناس ينحرفون، ويضلون، ويحرَّفون ما جاءت به الأنبياء, وما جاءت به الرسل، والناس بالجهل وبالانحراف وبتأثير شياطين الإنس والجن, وبتأثير الطواغيت المتجبرين المتكبرين في الأرض؛ لا يفرقون بين النبي وبين مجرد الفيلسوف أو الحكيم أو الرجل ذي الشأن، أو من يطلب الشهرة, ومن يطلب المنصب, وما أشبه ذلك.
    وهكذا في كل مرحلة من مراحل التاريخ نجد الصراع الشديد والخلاف القوي بين الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وبين مناوئيهم ومخالفيهم من الجبابرة؛ من الملأ المستكبرين المتسلطين في الأرض، من المشعوذين والدجالين والكهنة من السحرة، إلى أن جاء نور الإسلام وجاء محمد صلى الله عليه وسلم فجاء بالدين العجيب.
    الذي سبق أن أوضحنا مظهراً من مظاهر العجائب فيه؛ وهو أن المعجزة الكبرى فيه مع كثرة الآيات والبراهين الدالة عليه أن وحي من الله تبارك وتعالى.
    وهنا نجد أن الإسلام يرجع الأمر كله إلى المعرفة، فالوحي يُعرف وتَتجدد معرفته, ويتجدد إدراكه على مدار القرون؛ فإذاً: هذه أعلى حالة يصل إليها العقل البشري والإنسان، وهو: أن يكون إيمانه من خلال المعرفة، ومن خلال العقل, ومن خلال الدليل, ومن خلال البرهان، وإن كانت الآيات المادية والحسية موجودة في الإسلام, وهي موجودة للأنبياء السابقين صلوات الله وسلام عليهم.
  4. تعظيم شأن الأنبياء وعلو منزلتهم

    النبوة شأنها عظيم؛ لأنها تخرج عن نطاق ما يمكن للعقل البشري أو العلم البشري أن يصل إليه، ومن هنا نجد التعظيم الجليل للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لدى كل البشر، لدى النفوس البشرية قاطبة, التعظيم لهم والتعظيم لعلومهم؛ لأن هذه العلوم خارجة عن أن تكون من نطاق ما يمكن للبشر أن يحصّلوه أو يكتسبوه أو يأتوا به.
    والله سبحانه وتعالى جعل للأنبياء الكرام -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- من الميزات في خَلْقهم وخُلُقهم وأفعالهم وأعمالهم وما يدعون إليه ما يبهر العقول! وما يجعل أكبر النفوس تنقاد صاغرة إلى القول واليقين بتصديقهم؛ حتى أعتى الفراعنة أو المتسلطين أو الطواغيت قال الله تبارك وتعالى فيهم: (( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ))[النمل:14], حتى عند المناظرات، كما حدث في المناظرة بين الطاغية المتمرد المتجبر على الله تعالى وبين إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه؛ والتي ذكرها الله تبارك وتعالى في سورة البقرة وغير ذلك.
    المقصود: أن هذه الصفات العظيمة الجليلة لا تقتصر على ما لدى الأنبياء من العلوم ومن المعارف، ولا ما لديهم من الفضيلة والطهارة والخلق؛ بل تشمل جوانب كثيرة جداً؛ بحيث لا يشتبه على الإطلاق النبي الذي يرسله الله تبارك وتعالى ويوحي إليه بأي رجل آخر ممن يدعي أن لديه خارقة أو معجزة أو حكمة أو فلسفة أو أي نظرية من النظريات التي تظهر في القديم والحديث.
    جعل الله تبارك وتعالى هؤلاء البشر المختارين المصطفين أصدق الخلق وأبرّ الخلق وأرحم الخلق وأعدل الخلق، جعلهم تبارك وتعالى أبعد الخلق عن العمل لحظ النفس أو لأجل الجاه أو لأجل المطامع الدنيوية الحقيرة القليلة، جعلهم نموذجاً في البرِّ وفي الطهارة وفي التعامل الأفضل وفي حسن الخلق، في الحث على الإطعام، وعلى الإنفاق على المسكين والأرملة والفقير، والرحمة بكل من يحتاج إلى الرحمة من عباد الله تبارك وتعالى، حتى من الطير أو الحيوان أو الوحوش أو ما أشبه ذلك، فجعلهم نموذجاً فريداً.
    لو أن المتلمس أو المريد لأن يكون مثلهم حاول واجتهد لما استطاع أن يكتسب هذه الفضائل، إلا في جوانب منها ولا يبلغ مرتبة الأنبياء قط!
  5. معاداة الأنبياء والقول بأن ما أتوا به ضرب من الشعوذة

    فكيف بمن يعاديهم أو ينابذهم أو يناوئهم؟! فكيف بمن لا يتفق معهم في شيء إلا ما يزعمه مما يظهره البعض فيقول: إنه خوارق أو معجزات؟! مثل: ما يفعله المشعوذون والسحرة والكهنة، وقد يتحدون به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم؛ كما فعل فرعون والسحرة في ظنهم أن بإمكانهم أن يتحدوا آيات الله، وكما فُعل أيضاً في أيام المسيح عليه السلام، وكما أراد مسيلمة أن يأتي بشيء من مثل القرآن؛ ولكن الفرق يظل جلياً واضحاً، بحيث لا يمكن أن يختلط إلا لو اختلطت الشمس في رابعة النهار بالظلام في الليل، فالأمر والفرق كبير جداً.
    لا حاجة في الحقيقة إلى الخوض الذي خاضه المتقدمون من علم الفلسفة, وعلم الكلام في مسألة الخوارق أو المعجزات, وهل تشتبه أو تختلط الآيات والبراهين؟! لأن الله لم يسمها معجزات؛ بل سماها آيات وبراهين تدل على صدق الأنبياء، لا يمكن أن تختلط بما يفعله المشعوذون أو الكهان أو الدجالون؛ إلا على أعشى البصر والبصيرة, الذي لا يستطيع أن يميز بين هؤلاء وبين هؤلاء.
    وعندما نتكلم نحن في هذا الزمن حيث ارتقت العلوم والمعارف والفلسفات, وحيث ابتعد الناس حقيقة عن الإيمان بالخوارق أو المعجزات؛ نجد أن المعجزة النبوية أعظم وأعظم؛ فيما جاء به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهي أكمل ما تكون فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
  6. الدعوة التي بعث بها الأنبياء

    ومع ذلك فلننزل إلى التاريخ القديم, وننظر ما الذي جاء به الأنبياء الكرام! ننظر من خلال الكتب السابقة للقرآن؛ وننظر أيضاً من خلال ما أثر أو نقل من الآثار المكتوبة أو المنقوشة وما أشبه ذلك.
    نحن نجد أن هناك مادة عظيمة جداً تدلنا على أمر جاء, وتوضح في القرآن بأجلى ما يكون؛ لكنه قائم وقديم منذ القدم, وهو: أن الأنبياء جميعاً دعوا إلى نبذ عبادة ما دون الله تبارك وتعالى، ينبذون عبادة ما سوى الله, ويرفضون الشرك بالله تبارك وتعالى، ويحقرون عبادة الأصنام أو الحيوان أو مظاهر الطبيعة كما يسمونها, وما أشبه ذلك.
    جاءوا بألا يعبد إلا الله تبارك وتعالى, ونحن نستطيع أن نستشف هذا من أخبار كثيرة للأنبياء الكرام صلوات الله وسلامه عليهم في العهد القديم، وأجلى ما يكون ذلك -كما قلنا- في القرآن.
    إذاً: كل من يريد أن يكتب عن الأنبياء مع الإقرار بنبوتهم يلاحظ هذا الملحظ؛ أنهم يعترفون بأن المعبود الخالق تبارك وتعالى واحد لا شريك له، وأنه لا نسبة على الإطلاق بينه وبين شيء من مخلوقاته, أو ما عبد من دونه تبارك وتعالى.
    فلذلك نجد أن هذا الركام الهائل من الأصنام والمعبودات والوثنيات التي تنقل عن الأقدمين -عن بابل سومر، وعن القدماء في الحضارات الشرقية والغربية, وفي الشرق الأوسط, وفي الصين وفي الهند, وفي أمريكا الجنوبية والوسطى وغير ذلك- كل هذا الركام والخرافات والأساطير انحطاط بالعقل البشري إلى ما هو أدنى وأقل من العقل البهيمي؛ وانحطاط بالعقل البشري من أن يكون مستنيراً بنور معرفة الله تبارك وتعالى؛ إلى أن يعبد ما يصنعه وينحته بيده من الحجارة أو من الخشب وما أشبه ذلك، وهذا بلا شك فارق عظيم جداً بين الارتفاع والسمو والرقي الروحي والأخلاقي والديني لدى البشرية، وبين ما عدا ذلك من الهبوط في دركات الانحراف العقلي والروحي والخلقي في دركات دنيا مشاهدة لدى كثير من الشعوب؛ تنشأ عنها في النهاية المظالم والمفاسد العظيمة جداً؛ لأن أعظم أنواع الظلم هو الشرك بالله تبارك وتعالى، ينشأ من ذلك أن يتسلط الجبارون والمتكبرون والطغاة والمتمردون على الله؛ لأنهم يرون أنهم -وهم بشر- أعظم من أن يكونوا كهذه الجمادات، فيدعون الألوهية -تعالى الله عما يشركون- ويتسلطون على الأمم، ويسفكون دماء الشعوب ويدمرون الحضارات.
    وهكذا تصطرع البشرية وتصطخب, ويموج بعضها في بعض بألوان من الأحداث والفتن، وأنواع من الظلام والدمار الخلقي والروحي، وكل ذلك ناشئ عن الشرك بالله تبارك وتعالى، ومن ترك ما جاء به الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم من الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له, وألا يعبد شيء سواه تبارك وتعالى، فكل ما عدا الله فهو مخلوق, وهو مربوب, وهو خاضع لله تبارك وتعالى.